السيرة العطرة للشهيد الغيور على دينه ووطنه حـبيب شـهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
ﭽ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونﭼ (آل عمران: 169/170 )
السيرة العطرة للشهيد الغيور
على دينه ووطنه
حـبيب شـهرة
رحمه الله واسكنه فسيح جنانه
بقلم الدكتورة / حبيبة شهرة
صغرى بنات الشهيد حبيب شهرة
أستاذة محاضرة بكلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية والحضارة
قسم العلوم الإسلامية - جامعة عمار ثليجي- الأغواط – الجزائر.
اسمه الرباعي حبيب أحمد الحاج علي شهرة
مولده ونسبـه:
هو حبيب شهرة من أسرة محافظة ابن أحمد ابن الحاج علي شهرة وأمَه حدة بنت لحبيب ابن علي ابن واعر من مواليد 1919 من عرش الزكازكة قبيلة أولاد قانة وهي قبيلة من البدو الرحَل بين التل والصحراء الجزائرية تعرف بالكرم والجود والشهامة والنخوة العربية الأصيلة والفروسية والبطولة وفصاحة والشعر. جدَه الحاج علي كان من الثوار الأوائل الذين تحركوا لردَ العدوان الفرنسي على مدينة الأغواط لما اكتسحتها جيوش الاحتلال في سنة 1852 ، فثار ببسالة الجندي الغيور على دينه ووطنه وعرضه ونوى التصدي للاستعمار لكنه وهو في طريقه إلى مدينة الأغواط عاينته فرقة عسكرية استكشافية فأطلقوا عليه النار فسقط شهيدا على مشارف المدينة وأمضي شهيدا إلى ربه يحث بدمائه رفاقه للسير على دربه وخلَد اسمه في سجل قافلة الشهداء الأوائل الذين حفزوا ممن حولهم للتصدي لقوات الاحتلال وقد شهدت لـشجاعتهم فرنسا نفسها حيث صرَحت وقتها أنها لم تواجه مقاومة أعنف ولا أشد من تلك التي واجهتها من مقاتلي مدينة الأغواط .
ولم تسقط المدينة في يد الاستعمار إلا بعد ستة أشهر بعد معارك عنيفة خسر فيها الاستعمار الغاشم في تلك المعارك أفضل جنرالات وقادة وضباط ساميين واعترفت فرنسا بخسائرها البشرية والمادية، ودونت ذلك في سجلاتها على أن احتلال مدينة الأغواط كان الاحتلال الثاني للعصمة الجزائرية من شدة ما لاقته من مقاومة مقاتليها.
توفي والده وتركه مع أمه وأخيه عبد الملك وأخته هنيَة وكان سنه لم يتجاوز الرابعة من عمره، فتكفَل بهم عمَهم القائد ابن عبد الله فانتقلوا لمقر سكناه بمنطقة بريَان بالجنوب الجزائري حيث كان هذا الأخير مسئول قيادي مفوَض على منطقة غرداية وبريان. ذهبت والدتهم إلى أهلها بمدينة الأغواط حيث وافتها المنية هناك.
التحق بالمدرسة الابتدائية بغرداية وزاول تعليمه الابتدائي لسنتين لكنه لم يحالفه الحظ حيث توفي عمه فانتقل لكفالة أخواله بمدينة الأغواط وسكنوا في مقر سكن الجدة، الأمر الذي ضيع عليه سنة دراسية كاملة إذ أن أخواله لم يُبدوا اهتمام لدراسته فكان من حبه وشغفه للدراسة أنه يحتفظ بنقود العيد ويشتريها شمع ودفاتر وأقلام، فبالنهار يجلس ببستان بيتهم يحرص الغنم ويطالع دفاتره القديمة وبالليل ينير الشمع وينكب لدراسة دفاتره القديمة إلى أن يغلبه النوم أو ينطفئ شعاع نور الشمعة (كانت البيوت وقتها غير مجهزة بالكهرباء).
وتطوع للاعتناء بهما هو وأخوه الرجل الفاضل التخي نعيمة الذي تولى تربيتهما على كفالته ماديا ومعنويا إلى أن أوصلهما الى بر الأمان وبقي هذا الجميل في عنق الشهيد وأخاه طيلة حياتهما، ولما كبرت سن الرجل الفاضل التخي نعيمى آثر البقاء عند عبد المالك رغم إسرار عائلته بالمكوث بينهم، فتولاه أخ الشهيد عبد المالك بالرعاية والتكفل إلى أن توفاه الله
وبفضل هذا الرجل الفاضل استطاع عبد الملك الدخول إلى ميدان العمل في سن مبكرة (18 سنة) من أجل أن يوفر لأخيه إنهاء دراسته العلى بمدرسة الأساتذة العليا ببوفاريك حرصا منه على إعداده فكريا وعلميا. فعُين عبد المالك محاسبا في شركة النقل الفرنسية (دولوني) وكان يسهر ويكد ليوفر لأخيه مصاريف الدراسة التي كانت باهضة للجزائري في ذلك الوقت تعجيزا من فرنسا بقصد تجهيل الشعب الجزائري
مساره العلمي
أنهي مرحلة الابتدائية بمدينة الأغواط ثم الإعدادية والثانوية بمدينة بوفاريك (BEPC)وتحصل على شهادة الثانوية العامة ثم التحق بمعهد دار المعلمين ببـوزريعة بالجزائر العاصمة التابع للجامعة الفرنسية فزاول دراسته هناك بتفوق خلال السنوات الثلاثة إلى أن تخرَج بمنصب أستاذ مع مرتبة الشرف بدرجة الامتياز.
كان مقيما بالحي السكني للطلاب وكانت تواجهه صعوبات مادَية كبيرة من طرف إدارة المعهد حيث يتعمد المسئولون الفرنسيون رفع مبالغ القسط الدراسي السنوي كوسيلة تثبيطه وتعجيزه عن متابعة دراسته وإذا لم يدفع يهدد بالطرد (وذلك كونه مسلما عربيا جزائريا متفوقا)
وفي سنة من السنوات لم يتمكَن أخاه عبد الملك في جمع المبلغ فطرد من المعهد على أن لا يرجع إليه إلا إذا دفع القسط، فما كان منه إلا أن اتفق مع زملائه بالسكن على أن يتسلل خلسة إلى الحي السكني لينام ليلا ويجلس بالنهار في أروقة الصفوف أو تحت نوافذها ليستمع لشرح الدروس ويسجلها ثم يراجع ما فاته منها مع أصدقائه بالسكن. وضل عِدَّة شهور على هذه الحالة إلى أن وفر له أخاه عبد الملك المبلغ
ولما دخل الامتحان كان الأول على مستوى المعهد، الشيء الذي لفت انتباه أساتذته فيما بعد واقتناعهم بتفوقه وشدة ذكائه، فاتفقوا على مماطلة وتأخيره قسط الدفع إلى أن يتمكن أخاه من تيسير المبلغ المطالب به وإرساله إليه.
وسار على هذه الوتيرة إلى أن أنهى ثلاث سنوات كان فيها التفوق والامتياز حليفاه مع لوحة الشرف التي كانت تمنح له كل سنة. وتحصَل في تلك السنوات الثلاث ما بين:
. )C.A.Pثم الـ ( ) B.S.C ( ) والـ B.E.C 01/10/1937 إلى 30/9/194
عيَن مباشرة بعد التخرَج بعين يوسف بولاية المدية فالتحق بها وكانت منطقة جبلية وعرة يقطعها يوميا عبر الثلوج ليصل إلى صف فيه خمسة أو ستة طلاَب فقط. وكان يزاول عمله تحت ضغط شديد من قبل وزارة التعليم الفرنسية.
ولما صعب عليه الأمر ترك منصبه وهو الشيء الذي جرَ له متاعب من جهات عديدة وخاصة من مسئول التعليم الفرنسي على مستوى الجزائر لعدم انضباطه معهم، وكانت نقطة سوداء سجلت ضده من طرف الاستعمار الغاشم
ولم يعبأ بتهديداتهم وبقي فترة بلا شغل لكن أثناء هذه الفترة كان يعطي دروسا خصوصية مدفوعة الأجر ليقتات بها.
ثمّ عيَن في مدينة تاجموت فكان من 01/10/1940 الى31/12/1940
(3 أشهر) متربَص ثم من 01/01/1941 إلى 30/09/1941(9 أشهر) أستاذ مثبَت في اللغة الفرنسية.
كان يذهب لهذه البلدة التي تبعد مدينة الأغواط ب 45 كلم بالدراجة صباحا ويرجع بعد الدوام مساء سنة كاملة
تأهل في هذه الفترة وتزوج من قريبته ورزق منها بخمس بنات
ثمَ عين بعين الكرمة من 01/10/1941 إلى 01/12/1943 (سنة وأربعة أشهر) بصفة مدير مدرسة للبنين.
ومن 02/02/1943 إلى 13/08/1945 (سنتين وسبعة عشر أشهرا وإحدى عشر يوما) جُنَد للخدمة العسكرية بمدينة المدية لأربعة وخمسين يوما ثمَ إلى فرنسا لإتمام تدريبه العسكري فاختار المدرعات العسكرية للمشاة (والتجنيد كان إجباري تفرضه السلطات الفرنسية على النخبة المثقفة من الشباب).
وبعد انتهاء الخدمة العسكرية عيَن بغرداية في فترة ما بين 01/10/1945 إلى 30/09/1946 (سنة كاملة) كأستاذ مثبَت. Titulaire Adjoint
ثم بنفس الرتبة عين بمدرسة للبنين بمدينة الأغواط من 01/10/1946 إلى 30/09/ 1957 (إحدى عشر سنة). وهي المدرسة التي تحمل اسمه منذ استشهاده إلى الان.
وتوسعت دائرتها فيما بعد فصارت تحتوي على ابتدائية وإكماليه للبنين والبنات كلاهما تحمل اسمه.
نستطيع القول أن مجموع سنوات دراسته وتدريسه هي: 19 سنة و11 شهرا و11 يوما تدرَج خلالها على سلَم الترقيات من السَلم الأول إلى الرابع وكان السلَم الرابع أعلى درجة في مرتبة المدرس آنذاك في سلك التعليم.
كان متميَزا جدا بين المعلمين وميزته سجلها أحد طلابه المدعو" ابن عمر بن قصبية " فيذكر في مذكرته عرفانا بفضل هذا الرجل في ميدان شغله وطريقة تدريسه فيقول:
إن الطرق التربوية التي كان ينتهجها في قسمه الطرق حية حيث كانت الحيوية والنشاط حليفة قسمه، يشارك التلاميذ تلقائيا لما يتمتعون به من الحرية الكاملة فلا مكان للجمود والسلبية في قسم حبيب شهرة. كان التعلَم لا التعليم هو السائد عنده وكان متخصصا في قسم الابتدائي الثاني وكل من تعلم على يديه امتلك زادا لغويا كبيرا فضلا عن اتفان التعبير الشفوي والكتابي وحل المسائل الحسابية بكل سهولة...
لم يلاحظ عليه أبدا أن جلس على الكرسي، ويأتي دائما إلى المدرسة صباحا هرولة.... ويسترسل في حديثه
ويصفه بميزة أخري فيقول.... له غيرة منقطعة النظير عن الجزائر والعرب حيث يردد دائما بيتا شعريا بالعربية للشيخ عبد الحميد ابن بأديس:
فـإذا هـلكـت فصيحـتـي ... تحيـى الجـزائـر والعـرب
ثم يقول: .... ومن المستحيل أن أنسى تلك الحادثة التي وقعت في ساحة المدرسة وهي أن سمع حبيب شهرة من أحد زملائه من المدرسين المستعمرين قوله لأحد التلاميذ في ساحة المدرسة " عربي وسخ " فصفعه صفعتين أردته على الأرض ووقع ما وقع بينه وبين مدير المؤسسة آنذاك مما جعل الخلاف بينهما يتحول من تلك الحادثة إلى صراع مستمر.
حقا أن الحبيب شهرة كان ملفتا للنظر بنشاطه وتصرفاته وغيرته وأخلاقه العالية وعطفه على التلاميذ وخاصة الفقراء منهم الذين كان يشتري لهم الأدوات المدرسية من ماله الخاص، وكان على اتفاق مع الحلاق المرحوم (الطاهر زعابطة) ليحلق لفقراء شعرهم على نفقته الخاصة كلما اقتضى الأمر، وكان لا يتساهل أبدا مع التلميذ الذي يأتي إلى المدرسة غير نظيف وخاصة نظافة اليدين.
حياته النضالية ومتى بدأت:
كان مع أخيه عبد الملك ينشطان في ميدانين مختلفين فعبد الملك كان يعمل في مجالات عديدة ومن بينها عضويته في تأسيس مدرسة أحمد الشطة لتعلم اللغة العربية التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتابع لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. فكان مسئولا على الجانب المادي والمصرفي وله أيادي بيضاء في تأسيس أول صرح للعلم والمعرفة، وهي مدرسة (أحمد شطة) وسميت هذه المدرسة على اسم أحد علماء مؤسسي جمعية علماء المسلمين الجزائريين فنشأت أول خلية فعالة لمجتمع مدينة الأغواط رغم أنف الاستعمار الغاشم.
وقبل الثورة المباركة كان الشهيد حبيب شهرة معروف بممارسة الرياضة وخاصة العدو الريفي حيث يأتي إلى المدرسة هرولة. ولا يعرف النوم بعد صلاة الفجر حيث يقضيه في العدو وممارسة الرياضة في بستان بيته الواسع.
ولما أسس السيد بن سالم محمد ودهينه محمد مع عدد من المثقفين النادي الرياضي (المانيفست) في سنة 1949 انخرط الشهيد حبيب شهرة فيه كلاعب رياضي وفي نفس الوقت كعضو مسئول عن البعثات الطلابية خارج الوطن فكان كل سنة من هذا التاريخ إلى يوم التحاقه بالجبهة يسافر إلى دول اشتراكية كروسيا وبلغارية ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وهنغارية وغيرها مرورا بدول أوربية وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا الى أن ينتهي به المطاف الى فرنسا حيث يقضى فيها هو وعائلته العطلة الصيفية وذلك كل سنة.
إلى جانب هذا النشاط كان مناضلا في صفوف الأحزاب التقدمية الاشتراكية وخاصة الحزب الذي يطالب بالعدالة بين الجزائريين والفرنسيين.
بدأ عمله أولا في وسطه المدرسي الذي كان حيث كان مناضلا صلبا في صفوف الأحزاب التقدمية الاشتراكية مع زملاء له فرنسيين ينتمون للحزب الاشتراكي المناهض لفرنسا من بينهم الأستاذ (رينو فرانسيس، وأوزي، وكالدور) وهذا الأخير أوقفته الشرطة آنذاك مع الشهيد حبيب شهرة لتوزيعهم منشورات ضد فرنسا مما فتح عليهما حربا بينهم وبين مدير المدرسة (لوفيبر) بلا هداوة وجر لهم متاعب من قبل السلطة العسكرية الحاكمة .
شارك في أول عملية تفجير سرية للمحطة الكهربائية الوحيدة الموجودة بمدينة الأغواط آنذاك حيث نفَذها مع اثنين من إخوانه الشهيد "جاب الله حشَاني" و" قلوزا حامَا" والتي تبنتها الجمعية الديمقراطية للمسلمين الجزائريين التابعة لـ"فرحات عباس" وكانت أول عملية من نوعها بمدينة الأغواط.
كان حبيب شهرة أب لخمس بنات تتوفر لديه جميع شروط النجاح في الحياة من شباب وفتوة وصحة وثقافة عالية ورتبة اجتماعية سامية لكنه ضرب بكل هذا عرض الحائط واختار نداء الوطن وخدمة الجزائر وقدم في سبيل ذلك كل ما يملك سخية بها نفسه، فاتصل بمسئول الولاية الخامسة العقيد لطفي (كان هذا الأخير معلما) فكثيرا ما كان حبيب شهرة يمتطي سيارته ويذهب لمقابلة العقيد لطفي في الجبل ثم يلتقي بصفوة الفئة المثقفة لتنظيم خليات سرية وتجهيزها معنويا للالتحاق بصفوف المجاهدين.
وضل ينشط في عمله السري إلى تاريخ 27/08/1957 الذي التحق فيه نهائيا بصفوف جيش جبهة التحرير الوطني بالولاية الخامسة المنطقة الثالثة الناحية الرابعة
ولثقافته الواسعة وتكوينه البدني والرياضي ودرايته بسلاح المدرعات العسكرية وخبرته في هذا النوع من السلاح ارتقى إلى ضابط أول سياسي وأصبح يعرف تحت اسم "سي التواتي" وتدرَج في الرتب والمسؤوليات حتى أصحب مسؤول الناحية الثالثة المنطقة الثالثة بالولاية الخامسة بنواحي "البيض" وأشرف على جميع الاشتباكات والمكامن والمعارك التي خطط لها ونفذها رفقة إخوانه المجاهدين بالناحية
إن حياته الميدانية في الجهاد لم يصلني منها إلا ما رواه عنه بعض رفقائه الذين عاشوا من بعده وكانوا عاشروه في تلك المناطق الوعرة النائية في جبال منطقة " القعدة " ومعظمهم تفرَقوا في الأمصار أو استشهدوا من بعده.
ولصعوبة الاتصال بيننا وبينهم كان من التقينا بهم يُعدون على الأصابع إلا أنني سوف أجمع المزيد من المعلومات عمن عرفوه في الميدان وهم لازالوا والحمد لله على قيد الحياة إلى الآن.
فكل من عرفوه يجمعون أنه رحمه الله كان سريع الخطى مما يصعب على بعض رفقائه في الجهاد السير معه وكان رغم انشغالاته في مهام التخطيط العسكري يتفقد معسكراته ويداوي الجرحى ويواسي المرضى ويدير شؤون جنوده بنفسه ويدخل السرور عليهم بضحكته التي لا تفارق محياه ويطيب خواطرهم بمطمئنتهم بالنصر القريب ويدخل على قلوبهم السرور بالترفيه عنهم بالنكت مما جعل الجميع يُكنُ له الحب والإعجاب والتقدير ويذكرونه بما يليق به من تبجيل واحترام منقطع النظير حتى بعد استشهاده.
يقول أحد من بين الذين التقينا به :
كان رحمه الله صبوح الوجه لا نراه إلا مبتسما ينشطنا كل صباح بأنشطة مختلفة تشعر وأنت معه أنه في كل مكان مع القادة في خيمته، على رأس الجبل ينشد جسمه بالعدو السريع في الساعات الأولي من النهار، معنا في الخنادق، على موائد الأكل وسط الجنود ينكَت مع الكل بروح مرنة وبحيوية منقطعة النظير فلا تفارق محياه البسمة، وتلامس فيه شخصية رحيمة وهمة عالية فلا تكاد تصف خلقا من الأخلاق إلا وتجد حبيب شهرة يمثله قلبا وقالبا، ورغم مسؤولياته الجسام إلا أنه كان يجلس إلينا ويكلمنا عن الصبر ويذكرنا بمكانتنا عند الله ويحدثنا كثيرا عن عائلته وبناته ويقول :
(عندي خمس بنات صغار أحبهم جدا ولو سقطت شهيدا أعرف أن الله لا يضيعهم فإني استودعهم الله الذي لا تضيع ودائعه وأتركهم أمانة في عنق كل جزائري فكل جزائري أب لهم ).
كان يبعث فينا الأمل والإقدام على التضحية كلما جلسنا معه وما كان بيننا وبينه وسائط إنما كنا نعتبره جندي بيننا فنَسَجَ عظمته بتواضعه مع جنوده وعظيمته في تدبيره شؤون المعارك وعظمته في قوة صبره وإقدامه بلا هوادة في نصرة بلده.
ويقول آخر: حصلت معركة وكنا في تعب وإرهاق شديد، ناهيك عن كثرة الجرحى بين الصفوف، وكان علينا أن نعبر نهر جارف لنصل إلى بر الأمان وبسرعة حتى لا تداهمنا قوات العدو وكان الفصل شتاء والبرد شديد والثلوج تكسو قمم الجبال فكان رحمه الله يطلب من جرِيحَيْن من جنوده أن يمسك كل واحد منهما بذراعه ويعبر بهما النهر إلى أن يصل بهما إلى الشط الثاني ويرجع سباحة إلى الباقين إلى أن أوصل منهم تسعة جرحى وما استطاع أحدنا أن يقوم بما قام به هو شخصيا من شدة برد الطقس وقوة تدفق ماء النهر.
هو الذي مثَل الولاية الخامسة في الاجتماع الذي انعقد في أبريل 1958 والذي انتهى بتحرير محضر تنفيذي بمقتضاه تَضمَ مدينة الأغواط ونواحيها إلى الولاية السادسة، والمحضر حرَر بالعربية لأن الولاية السادسة كانت معرَبة تعريبا تاما في ذلك الوقت تم أًمضيً المحضر التنفيذي من طرف "سي التواتي" بالاسم الحربي لحبيب شهرة ممثلا للولاية الخامسة والضابط الأول السياسي أحمد أحشائش ممثلا للولاية السادسة.
كان ينظم له أخوه عبد الملك بين فترة وأخري نزوله للأغواط ليلتقي بأهله وكان يتمَ ذلك في سريَة فائقة لأن السلطات الفرنسة كانت تبث عيونها للقبض عليه حيا أو ميَتا وتوعد من يسلمه لها أو يدل على مكانه بمبالغ مالية مغرية، فكان ينزل متخفَي إلى منطقة نائية تبعد عن الأغواط بكيلومترات تسمى (المخرق) حيث بيت إحدى أخوات زوجته فيقيم عندهم يوم أو يومين ويقوم أحد أفراد العائلة بتوصيل زوجته إليه مصطحبة معها ابنته الصغرى المسماة على اسمه(حبيبة) لأنها الوحيدة التي لم يراها في حياته إلا مرتين مرَة بعد ولادتها بشهور ومرَة وهي بنت سنة وأشهر، فكان يقضي مع أسرته يومين أو أقل ثم يقفل راجعا إلى ميدان الجهاد .
كان شغوفا جدا بالقراءة والمطالعة وتعلَم اللغات. فأثناء رحلاته إلى الدول الاشتراكية والأوروبية كان لا يرجع إلى الجزائر إلا محملا بالكتب القيمة التي تتكلم عن الأمم والتاريخ واللغات والثقافات المختلفة عبر تلك الدول التي تجوَل في ربوعها ونهل منها الكثير وكان يدفع اشتراك سنوي لمكتبة فرنسية تزوده كل سنة بما هو جديد في حقل ثقافة الشعوب فكانت ترسل إليه على عنوانه بالجزائر أو يأخذها بنفسه لما يأخذ عائلته للمصيف أو لزيارة أصدقائه بأروبا، فتحصل على مكتبة تزخر بالكتب القيَمة لا زالت موجودة إلى الآن عند أسرته وتعتبر ثروة علمية هائلة كما أشير إلى أن معادلات دراسته مع دفاتره وقوائم تلاميذه وتحضير دروسه وجداول أعماله وصوره منفردا أو مع أسرته أو مع أصدقائه في حله وترحاله سواء قبل الثورة أو أثنائها موجودة إلى الآن في المكتبة المذكورة مع تعليقات قيَمة وبصمات له عديدة بخط يده هو، وكذلك تعليقات مخطوطة من أصدقائه.
ماذا قال عنه بعض رفقائه وتلامذته:
يقول فيه بعض رفقائه الشهادات سجلوها له للتاريخ وللأجيال
قال أحد رفاقه من الفرنسيين في السلك التعليم " فرانسيس رينو" وقد ربطته به علاقة صداقة حميمة (كتبها باللغة الفرنسية وقمت بترجمتها باختصار إلى العربية)
"ما صادفت في حياتي رجل شهم وذا روح عالية وهمة صادقة وأناقة مميزة في ملبسه ومأكله ومشربه مثل أخي حبيب شهرة، ربطت بيننا سنين التدريس في نفس المؤسسة فما كان منه إلا العطاء والإخلاص في عمله والتفاني في إتقان عمله كانت تعجبني فيه روح المزاح مع الجدية في حياته اليومية وفي اتخاذ القرار. غيور على كل شيء يمس بلده لا يكل من شغله يفوقنا في رياضة التسلق على الجبال والعدو السريع نشيط لأبعد الحدود لا يتسلل إليه الملل، عظيم في كل شيء، كريم لأبعد الحدود.
يحفزنا بأنشطته الترفيهية والتثقيفية أثناء الرحلات القصيرة التي كنا نقوم بها في ضواحي مدينة الأغواط في نهاية الأسبوع فكان خدوم للجميع خفيف الظل على قلوب كل من يحتك به، شديد الذكاء كثير التأمل كان موسوعة من الأخبار الدقيقة في جميع الميادين لا تكاد تسأل عن شيء إلا وتجد عنده الجواب الشافي.
كثيرا ما جمعتنا به جلسات عائلية ومناسبات مختلفة ولقاءات ورحلات فكانت كلها تتسم بالحيوية والنكت الهادفة والمسابقات العلمية إذ يحرك فينا روح المنافسة ويفاجئنا دائما بالجديد ولما لم يكون من بيننا نشعر بفراغ قاتل فكان حقا زينة مجالسنا وحقيقة معلوماتنا إذا استقيناها من نبعه الفياض.
إن حبيب شهرة كما عرفته عظيم من عظماء مدينة الأغواط والتعريف به وبنضاله وخصاله لأجيال ما بعد الاستقلال دين في عنق كل من عرفوه وتتلمذوا على يديه وعلى رفقائه في السلاح.
وإني أقولها للأجيال رغم كوني فرنسي: إنك لحقا شخصية فذة تترك بسماتها في أعماق كل من عرفك وتعامل معك عن بعد أو عن قرب. صنعت مجدك ببطولتك أخي حبيب، ومثلت وطنك في أحسن صور الشهامة والإقدام من أجل نصرته وتحقيق أهدافه. واستشهادك رغم انه بطولة وشرفا حققته لنفسك ووطنك بإخلاص إلا أنني افتقدت بموتك المشرف الرجل الشهم والأخ الصدوق والرفقة الهادفة المتواضعة الشامخة".
يقول رفيقه الفرنسي "أوزيه " وزوجته حينما زارونا في سنة1985:
عند دخوله إلى البيت عندنا بصحبة زوجته، انهمرت دموعهما بغزارة ولم يجلس مطلقا إنما اتجه مباشرة إلى غرفة مكتبه واحتضن محفظة صديقه حبيب بشدة وبكى بشدة ثم التفت إلينا قائلا لو كان حبيب حيا لكان أول من استقبلني بالمطار.
ولما وقعت عيناه على زوجة الشهيد لم يتمالك نفسه وتذكَر الماضي وما كان من زوجته كريستين إلا أن احتضنت الوالدة وبكي الجميع ولم يكفا من ذكر محاسنه رحمه الله
فقال:" لو كان في وسعي أن أدون حياة أخي ورفيقي حبيب شهرة لخانتني كل العبارات في وصف حقيقته، وحاولت عبثا أن أجد الكلمات التي تفيه حقه لما يتصف به من أخلاق عالية، فكان الطيبة نفسها وكان الجود والكرم بعينه فكنا كزملائه من الفرنسيين في السلك التعليمي نجده جنبنا في الشدة والرخاء فنادرا ما تجد أحدنا يذهب الى غيره من الناس لما تنزل بأحدنا الشدائد ولا يرتاح احدنا لغيره في النصيحة أو التوجيه أو التخطيط، فكنا كل عطلة نتسابق إليه في استشارته ببرمجة رحلات في ضواحي المدينة ناهيك عن الرحلات عبر العالم التي كنا نقضيها كل سنة معا
وكنا نحرص على أن يكون معنا في تلك الرحلات الشيقة فكان يمثل بالنسبة لنا الشريان الرئيسي للنزهة والترفه في مجالات علمية وتثقيفية وأخري مختلفة
وفي صيف كل سنة كان يصطحب عائلته معه ويأتي إلى فرنسي فكنا نتنافس في ضيافتنا له وكنا نفخر به بيننا ونعتبره أخلص وأجب زميل وصديق حل بديارنا.
يقول تلميذه بن عمر قصيبة:
كان حبيب شهرة شهما وطنيَا غيورا على الجزائر محبَا لجميع الناس معلما ممتازا ناجحا نجاحا باهرا في مهنة التعليم فضلا عن تفانيه في خدمة أمَته وخدمة الصالح العام، لا يريد من وراء ذلك جراء ولا شكورا.
أبغض الاستعمار الفرنسي إلى آخر نفس من عمره وأحبَ الجزائر حبَا صادقا فكان جزاؤه الجزاء الأوفى فسقط شهيدا في سنة 1960 وهل هناك أوفى وأعظم من الشهادة في سبيل نصرة الحق؟
طبت يا حبيب حيَا وميَتا بل انَك لم تمت وأسكنك الله فسيح جنانه وكل هذا دفعني بأن أكتب لك هذه الكلمات لآن مثلك من المستحيل على الذي عرفك أن ينساك وعرفتك متتلمذا عليك وانَي أحسبك كذلك عند الله يا معلَمي عظيما في أسمى صورة العظمة ولا أزكَي على الله أحدا.
تكريمه في المدرسة التطبيقية للدفاع المضاد للطائرات
قامت المدرسة التطبيقية للدفاع المضاد للطائرات بمدينة الأغواط بتسمية دفعة تخرج طلبة سنة 2004/2005 على اسم الشهيد وسميت بدفعة الشهيد حبيب شهرة وذلك بتاريخ 28/06/ 2004/2005 بساحة المدرسة وأشرف على الحفل العميد نائب قائد الناحية العسكرية الرابعة "تلمساني محمد على حفل تخرج الدفعات
• الدفعة 26 ضباط الإتقان
• الدفعة 13 ضباط التطبيق
• الدفعة11 للأهلية
• الدفة 17 لأهلية العسكرية المهنية الدرجة الأولى
• الدفة 21 لأهلية العسكرية المهنية الدرجة الثانية
• الدفة 14 للشهادة العسكرية المهنية الدرجة الثانية
وتم تسليم الراية للدفعات ثم قدمت نبذة تاريخية عن حياة الشهيد من طرف أحد خريجي الدفعة العسكرية بحضور أهل الشهيد ثم سُلم لهم وسام الشرف من طرف نائب قائد الناحية العسكرية الرابعة ومدير المدرسة العسكرية.
استشهاده:
قبل أن تلوح بوادر الاستقلال قررت جبة التحرير الوطني في إعداده ليتولى حقيبة وزارية بالجزائر بعد خروج الاستدمار الفرنسي وليكون من صناع القرار بالدولة بعد الاستقلال مباشرة. ومن هنا بدأت الخلايا السرية المندسة في صفوف المقاتلين بالقيام بتصفيات جسدية استهدفت المثقفين منهم خاصة.
تضاربت الأقوال في قصة استشهاده والروايات كلها تجزم على أنه دُبَر له كمين عند أحد العملاء لفرنسا حيث أن هذا الأخير علم بطريقة ما أن الشهيد حبيب شهرة كان مع بعض ضباطه يخططون لخوض معركة ضد العدو في تلك الأيام فقام بدعوتهم عنده لمندوبة عشاء في منطقة نائية وكان مع أربعة من ضباطه ونزولا إلى رغبته قضوا تلك الليلة عنده،
وعند بزوغ فجر تلك الغداة عزموا على الرحيل وخرجوا قافلين إلى مقر اجتماعهم السري بالجبل، فداهمتهم طائرة مروحية وقذفتهم بالصواريخ فأردتهم قتلى فمضوا جميعا شهداء ولم تعلم عائلته باستشهاده إلا بعد شهور.
"هذه - باختصار شديد- قصة الشهيد حبيب شهرة المعروف بين رفقائه في السلاح بـ "سي التواتي" لقد ضحَى بالنفس والنفيس للإعلاء صوت الحق ونصرة هذا الوطن وتطهيره من الاستدمار الغاشم.
فرحم الله جميع شهدائنا الأبرار وأسكنهم فسيح جنانه
• وقد حضرت مع عميد كلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية والحضارة بجامعة عمار ثليجي بالأغواط بالاتفاق مع مخبر الكلية وقسم التاريخ ملتقى وطني حول حياة الوالد الذي كان مزمع انعقاده في شهر أبريل الفارط مع حضور أعضاء من مديرية المجاهدين التابعة لولاية البيض وولاية الأغواط، لكن جائحة الكرونا حالت دون انعقاده وسينعقد إن شاء الله لاحقا عندما تستأنف الجامعة العمل بإذن الله.
• ورغم انشغالاتي وارتباطاتي بالجامعة إلا أني لا زلت أجمع من بعض من عاشروه بساحات الوغى حكايات بطولاته ولما تستفي كل المعلومات سأضيفها لما سبق من سيرته الذاتية لتصدر في كتيب وأدعو كل من عرف الشهيد أو عنده صور أو مواقف معه يتصل بي على الرقم الآتي:
رقم الهاتف النقال: 00213771629584
الواتس: 00213771629584
البريد الالكتروني: biba.sharaf@gmail.com
د. حبيبة شهرة
صغرى بنات الشهيد حبيب شهرة
ليست هناك تعليقات